فصل: من فوائد السعدي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد الماوردي في الآية:

قال عليه الرحمة:
وَأَمَّا الْكَافِرُ حكم شهادته فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِمُسْلِمٍ، وَلَا عَلَيْهِ فِي وَصِيَّةٍ، وَلَا غَيْرِهَا، فِي سِفْرٍ كَانَ أَوْ حَضَرٍ. وَحُكِيَ عَنْ دَاوُدَ: أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي وَصِيَّتِهِ، فِي السَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ. وَبِهِ قَالَ مِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَعِكْرِمَةُ. فَأَمَّا قَبُولُ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وَعَلَى بَعْضٍ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ بِحَالٍ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوِ اخْتَلَفَتْ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالْأَوْزَاعِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ مَعَ اتِّفَاقِ مِلَلِهِمْ وَاخْتِلَافِهَا، وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَقُضَاةُ الْبَصْرَةِ، الْحَسَنُ، وَسَوَّارٌ وَعُبَيْدُ اللَّهِ. وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ الزُّهْرِيِّ، وَالشَّعْبِيِّ، وَقَتَادَةَ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِأَهْلِ مِلَّتِهِمْ وَعَلَيْهِمْ، وَلَا تُقْبَلُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ مِلَّتِهِمْ كَالْيَهُودِ عَلَى النَّصَارَى، وَالنَّصَارَى عَلَى الْيَهُودِ. وَاسْتَدَلُّوا بُقُولِ اللَّهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} [الْمَائِدَةِ:]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ غَيْرِ دِينِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَجَعَلَهُ دَاوُدُ مَقْصُورًا عَلَى الْوَصِيَّةِ، وَجَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَجَعَلَهُ الزُّهْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ مَقْصُورًا عَلَى الْمُوافِقِينَ فِي الْمِلَّةِ دُونَ الْمُخَالِفِينَ وَرَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ» قَالُوا: وَهَذَا نَصٌّ. وَرَوَى أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: جَاءَتِ الْيَهُودُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ مِنْهُمْ زَنَيَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «ائْتُونِي بِأَعْلَمِ رَجُلَيْنِ مِنْكُمْ»، فَأَتَوْهُ بَابْنَيْ صُورِيَا «فَنَشَدَهُمَا كَيْفَ تَجِدُونَ أَمْرَ هَذَيْنِ فِي التَّوْرَاةِ» فَقَالَا نَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ إِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ رُجِمَا، قَالَ: «فَمَا مَنَعَكُمَا أَنْ تَرْجُمُوهُمَا» قَالَا ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّهُودِ فَجَاءُوا بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَكَرَهُ فِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْمَيْلِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجْمِهِمَا. فَدَلَّ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ قَالُوا: وَلِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي الْوِلَايَةَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يَلِي عَلَى أَطْفَالِهِ وَعَلَى نِكَاحِ بَنَاتِهِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنَ الشَّهَادَةِ، لِأَنَّهَا أَخَصُّ شُرُوطًا مِنَ الْوِلَايَةِ. قَالُوا:
وَلِأَنَّ مَنْ كَانَ عَدْلًا مِنْ أَهْلِ دِينِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ كَالْمُسْلِمِينَ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ فُسِّقَ عَلَى وَجْهِ التَّأْوِيلِ، فَلَمْ يُمْنَعْ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَأَهْلِ الْبَغْيِ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطَّلَاقِ:]، فَمَنَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَّا. وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الْحُجُرَاتِ:]. وَالْكَافِرُ فَاسِقٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي خَبَرِهِ، وَالشَّهَادَةُ أَغْلَظُ مِنَ الْخَبَرِ، فَأَوْجَبَتِ التَّوَقُّفَ عَنْ شَهَادَتِهِ. وَرَوَى عُبَادَةُ بْنُ نُسَيٍّ عَنِ ابْنِ غَنْمٍ قَالَ: سَأَلْتُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ عَنْ شَهَادَةِ الْيَهُودِيِّ عَلَى النَّصْرَانِيِّ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ دِينٍ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ دِينِهِمْ إِلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ عُدُولٌ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ» فَإِذَا مَنَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ دِينِهِمْ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يُسَوِّي بَيْنَ أَهْلِ دِينِهِمْ وَغَيْرِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ، وَعَلَى غَيْرِهِمْ، وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ الْمُسْلِمَ أَكْمَلُ مِنَ الْكَافِرِ الْعَدْلِ، لِصِحَّةِ الْعِبَادَاتِ مِنَ الْفَاسِقِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مِنَ الْكَافِرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ مِيرَاثَ مُسْلِمٍ، ثُمَّ كَانَ الْفِسْقُ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ الْكُفْرُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنْهَا. وَيَتَحَرَّرُ لَكَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى الْمُسْلِمِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُسْلِمِ كَالْفَاسِقِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْفِسْقِ، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ بِالْكُفْرِ، كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَلِأَنَّ الْكَذِبَ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، وَالْكَذِبُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَعْظَمُ مِنَ الْكَذِبِ عَلَى عِبَادِهِ، ثُمَّ كَانَتْ شَهَادَةٌ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَرْدُودَةً، وَالْكَافِرُ الْكَاذِبُ عَلَى اللَّهِ أَوْلَى أَنْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى كَذِبَهُمْ فَقَالَ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [الْمَائِدَةِ:]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آلِ عِمْرَانَ:]. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْ كَانَ مَوْسُومًا بِالْكَذِبِ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ كَالْمُسْلِمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَذِبَ إِذَا رُدَّتْ بِهِ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ، فَأَوْلَى أَنْ تُرَدَّ بِهِ شَهَادَةُ الْكَافِرِ، كَالْكَذِبِ عَلَى النَّاسِ، وَلِأَنَّ نَقْصَ الْكُفْرِ أَغْلَظُ مِنْ نَقْصِ الرِّقِّ، لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ نَقْصَ الْكَفْرِ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهَا نَقْصُ الرِّقِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ نَقْصَ الْكَفْرِ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْخَبَرِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ نَقْصُ الرِّقِّ، ثُمَّ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِنَا وَأَبِي حَنِيفَةَ أَنْ نَقْصَ الرِّقِّ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ قَبُولِهَا- نَقْصُ الْكَفْرِ، وَلِهَذِهِ الْمَعَانِي مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ اعْتِبَارًا بِنَقْصِ الْكَفْرِ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكِتَابِ. وَيَتَحَرَّرُ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا شَهَادَةٌ يَمْنَعُ مِنْهَا الرِّقُّ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهَا الْكُفْرُ، قِيَاسًا عَلَى شَهَادَةِ الْوَثَنِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَهَادَةٌ يَمْنَعُ مِنْهَا كُفْرُ الْوَثَنِيِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْهَا كُفْرُ الْكِتَابِيِّ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ فَسَنَذْكُرُ مِنِ اخْتِلَافِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِي تَفْسِيرِهَا مَا يَتَكَافَأُ بِهِ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [الْمَائِدَةِ:]، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهَا الشَّهَادَةُ بِالْحُقُوقِ عِنْدَ الْحُكَّامِ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا شَهَادَةُ الْحُضُورِ لِلْوَصِيَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا أَيْمَانٌ، وَمَعْنَى ذَلِكَ، أَيْمَانُ بَيْنِكُمْ، فَعَبَّرَ عَنِ الْيَمِينِ بِالشَّهَادَةِ، كَمَا قَالَ فِي أَيْمَانِ الْمُتَلَاعِنَيْنِ: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النُّورِ:]، فَلَا يَكُونُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا دَلِيلٌ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ، وَيَمْنَعُهُ التَّأْوِيلَانِ الْآخَرَانِ مِنْهُمَا، وَلَا يَكُونُ لِدَاوُدَ فِيهَا دَلِيلٌ إِلَّا عَلَى التَّأْوِيلِ الثَّانِي، وَيَمْنَعُهُ التَّأْوِيلَانِ الْآخَرَانِ فِيهِمَا.
وَفِي قَوْلِهِ: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الْمَائِدَةِ:]. تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَعْنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: يَعْنِي وَصِيَّ الْمُوصِي، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَفِيهِمَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا شَاهِدَانِ يَشْهَدَانِ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُوصِي. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا وَصِيَّانِ وَلِيَّهُ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَدَاوُدَ دَلِيلٌ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ الْآخَرَيْنِ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى التَّأْوِيلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ غَيْرِ دِينِكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ وَعَشِيرَتِكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ، وَعِكْرِمَةَ، وَالزُّهْرِيِّ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِيهِمَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ دَلِيلٌ، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ لَهُمَا عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ دَلِيلٌ. وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا عَلَى التَّخْيِيرِ فِي اثْنَيْنِ مِنَّا، أَوْ آخَرَيْنِ مِنْ غَيْرِنَا. وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِغَيْرِ التَّخْيِيرِ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ لَمْ تَجِدُوا مِنْكُمْ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَشُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ} [الْمَائِدَةِ:] يَعْنِي سَافَرْتُمْ {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ}، وَفِي الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ، وَتَقْدِيرُهُ، وَقَدْ أَسْنَدْتُمُ الْوَصِيَّةَ إِلَيْهِمَا. وَقَوْلُهُ: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ} [الْمَائِدَةِ:]. أَيْ: تَسْتَوْثِقُوا بِهِمَا لِلْأَيْمَانِ، وَهَذَا خِطَابٌ لِلْوَرَثَةِ، وَفِي هَذِهِ الصَّلَاةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَهَذَا قَوْلُ شُرَيْحٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ أَهْلِ دِينِهِمَا وَمِلَّتِهِمَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالسُّدِّيِّ، {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا} [الْمَائِدَةِ:]، فِيهَا قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: إِنِ ارْتَبْتُمْ بِالْوَصِيَّيْنِ فِي الْخِيَانَةِ أَحْلَفَهُمَا الْوَرَثَةُ. وَالثَّانِي: إِنِ ارْتَبْتُمْ بِالشَّاهِدَيْنِ فِي الْعَدَالَةِ، وَالْجَرْحِ أَحْلَفَهُمَا الْحَاكِمُ.
وَفِي قَوْلِهِ: نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا فِيهِمَا تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا نَأْخُذُ عَلَيْهِ رِشْوَةً، وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ. وَالثَّانِي: لَا نُعْتَاضُ عَلَيْهِ بِحَقٍّ، وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى أَيْ: لَا نَمِيلُ مَعَ ذِي الْقُرْبَى فِي قَوْلِ الزُّورِ وَالشَّهَادَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ، عِنْدَنَا فِيمَا أَوْجَبَهُ مِنْ أَدَائِهَا عَلَيْنَا. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} [الْمَائِدَةِ:]. وَفِي {عُثِرَ} تَأْوِيلَانِ: أَحَدُهُمَا: ظَهَرَ، حَكَاهُ ابْنُ عِيسَى. وَالثَّانِي: اطَّلَعَ، قَالَهُ النَّخَعِيُّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ تَقَارَبَ مَعْنَاهُمَا: أَنَّ الظُّهُورَ مَا بَانَ بِنَفْسِهِ وَالِاطِّلَاعَ مَا بَانَ بِالْكَشْفِ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: {اسْتَحَقَّا إِثْمًا} [الْمَائِدَةِ:]. إِنْ كَذِبَا وَخَانَا، فَعَبَّرَ عَنِ الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ بِالْإِثْمِ، لِحُدُوثِهِ عَنْهُمَا، وَفِي الَّذِي عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا- قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمَا الشَّاهِدَانِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا الْوَصِيَّانِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. {فَآخَرَانِ} يَعْنِي مِنَ الْوَرَثَةِ. يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا يَعْنِي فِي حِينِ ظَهَرَ لَهُمَا الْخِيَانَةُ مِنَ الَذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمَا الْأَوْلَيَانِ، فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: الْأَوْلَيَانِ بِالْمَيِّتِ مِنَ الْوَرَثَةِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَالثَّانِي: الْأَوْلَيَانِ بِالشَّهَادَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ، وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، مَا رَوَى عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَهْمٍ، قِيلَ: إِنَّهُ ابْنُ أَبِي مَارِيَةَ، مَوْلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ مَعَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعُدَيِّ بْنِ بَدَّاءٍ فَمَاتَ السَّهْمِيُّ بِأَرْضٍ لَيْسَ بِهَا مُسْلِمٌ، فَلَمَّا قَدِمَا بِتَرِكَتِهِ فَقَدُوا جَامًا مِنْ فِضَّةٍ مُخَوَّصًا بِالذَّهَبِ، فَأَحْلَفَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ وَجَدَ الْجَامَ بِمَكَّةَ، فَقَالُوا: اشْتَرَيْنَاهُ مِنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، وَعَدِيِّ بْنِ بَدَّاءٍ، فَقَامَ رَجُلَانِ مِنْ أَوْلِيَاءِ السَّهْمِيِّ، قِيلَ: إِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَالْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ فَحَلَفَا لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا، وَأَنَّ الْجَامَ لِصَاحِبِهِمْ فَنَزَلَتْ فِيهِمْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَافِرُوا مَعَ ذَوِي الْجُدُودِ وَالْمَيْسَرَةِ». وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، هَلْ هُوَ مَنْسُوخٌ أَوْ ثَابِتٌ؟ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حُكْمُهُمَا مَنْسُوخٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: حُكْمُهُمَا ثَابِتٌ، وَقَدْ تَجَاوَزْنَا بِتَفْسِيرِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ حَدَّ الْجَوَابِ لِيُعْرَفَ حُكْمُهُمَا، وَلَيْسَ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ دَلِيلٌ فِيهِمَا، فَإِنِ اسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ مَذْهَبَ دَاوُدَ بِمَا رَوَاهُ غَيْلَانُ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: شَهِدَ رَجُلَانِ نَصْرَانِيَّانِ مِنْ أَهْلِ دَقُوقَاءَ عَلَى وَصِيَّةِ مُسْلِمٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْوَصِيَّةِ أَقَرَّا بِهِمَا أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ، فَاسْتَحْلَفَهُمَا بِاللَّهِ بَعْدَ الْعَصْرِ مَا اشْتَرَيْنَا ثَمَنًا، وَلَا كَتَمْنَا شَهَادَةً، بِاللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو مُوسَى، وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقَضِيَّةٌ مَا قُضِيَ بِهَا مُنْذُ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ الْيَوْمِ. قِيلَ: هَذَا خِلَافٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ، فَلَمْ يَحُجَّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، لاسيما وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى خِلَافِهِ. ثُمَّ هَذِهِ قَضِيَّةٌ فِي عَيْنٍ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا تَأْوِيلٌ، فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ فِيهَا دَلِيلٌ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ بِالشَّهَادَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [الْمُنَافِقُونَ:]. وَكَمَا قَالَ فِي الْمُنَافِقِينَ: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [الْمُنَافِقُونَ:]. أَيْ: نَحْلِفُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رَجْمِ الزَّانِيَيْنِ الْيَهُودِيَّيْنِ: فَهُوَ أَنَّهُ لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ الْيَهُودِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُسْلِمِينَ، أَوْ حَصَلَ مَعَ شَهَادَةِ الْيَهُودِ اعْتِرَافُ الزَّانِيَيْنِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِصِحَّةِ وِلَايَتِهِمْ: فَهُوَ أَنَّ الْوِلَايَةَ خَاصَّةٌ فَخَفَّ حُكْمُنَا، لِمَا يُرَاعَى فِيهَا عَدَالَةُ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، وَيُرَاعَى فِي الشَّهَادَةِ عَدَالَةُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، فَلِذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَةُ الْكَافِرِ، وَإِنْ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُمْ عُدُولٌ: فَهُوَ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ الْوَارِدَ بِتَكْذِيبِهِمْ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ عَدَالَتِهِمْ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ، لِأَنَّ فِسْقَهُمْ بِتَأْوِيلٍ: فَهُوَ أَنَّ مَنْ حُكِمَ بِفِسْقِهِ مِنْهُمْ لِظُهُورِ الْخَطَأِ فِي تَأْوِيلِهِ، لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ، وَمَنْ كَانَ تَأْوِيلُ شُبْهَتِهِ مُحْتَمَلًا، كَانُوا عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَقَبُولِ شَهَادَتِهِمْ. اهـ.

.من فوائد السعدي في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ...} الآية.
يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية، إذا حضر الإنسان مقدماتُ الموت وعلائمه. فينبغي له أن يكتب وصيته، ويشهد عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما.
{أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} أي: من غير أهل دينكم، من اليهود أو النصارى أو غيرهم، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين.
{إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ} أي: سافرتم فيها {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} أي: فأشهدوهما، ولم يأمر بشهادتهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول، ويؤكد عليهما، بأن يحبسا {مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} التي يعظمونها.